في قاعة فندق أكوتيل في عكّا العتيقة بفلسطين، وبحضور عدد من الرّجال والنساء المثقفين من عكّا والقرى والمدن المجاورة، أقامت مؤسّسة أسوار عكّا بتاريخ 6-3-2012 أمسية لحفل توقيع رواية "جنة ونار"، للأديب يحيى يخلف ابن قرية سمخ المُهجّرة جنوب طبريّا، ووزير الثقافة الفلسطينيّة السّابق، وذلك ضمن فعاليّاتها الثقافيّة الوطنيّة في شهر الثقافة الفلسطينيّة، الذي اعتمد يوم ميلاد الشاعر محمود درويش كيومٍ وطنيّ للثقافة الفلسطينيّة، وكان من المفروض أن يحضر الكاتب حفل تكريمه، ولكنّ السّلطات الإسرائيليّة منعته.
بدأ الاحتفال بعرض لوحات على الشاشة مجموعة محمود درويش "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، وهي بريشة الفنان العكّي والمقيم في ألمانيا إبراهيم هزيمة.
تولّى عرافة الحفل الأديب محمّد علي سعيد جاء في كلمته:
أهلا وسهلا بكم جميعًا في بلدكم الصّابر والصّامد عكّا، وبضيفنا العزيز وبفخرنا وذخرنا إبداعًا ونضالاً الكاتب المبدع والرّاقي يحيى يخلف، يا ضيفنا لو زرتنا لوجدتنا نحن الضيوف وأنت ربّ المنزل. قل لي بماذا تحتفل وكيف، أقُلْ لك مَن أنت، ونحن اليوم نحتفل بالأدباء الأحياء ونكرّمهم، ولكنّنا لا ننسى الذين رحلوا عنا مؤخرا، د.عمر مصالحة مندوب فلسطين السّابق في اليونسكو، والشاعر سالم جبران والشاعر سليم مخولي وغيرهم، لقد رحل الذين نحبّهم وبقي الذين نحبّهم، وهذه سمة حضاريّة يتّسم بها الشعب الأصيل الذي يُقدّر أعلامه، وليتها تتجذّر لدى شعبنا فتصبح عادة.
لنقف دقيقة صمت وإجلال على أرواح جميع شهداء فلسطين الأبرار.
بهذه الأمسية الثقافيّة الدّافئة والحميميّة تنطلق أسوار عكا بفعاليّاتها في شهر الثقافة الفلسطينية، شهر له المكان والمكانة لدى شعبنا، ففيه ولد شاعرنا الكبير الغائب جسدًا والحاضر أبدًا محمود درويش، وفيه كانت انتفاضة يوم الأرض الخالدة، والتي شكّلت منعطفًا وأصبحت بوصلة في نضالنا، وأستثمرُ هذه المنصّة لأقترح العمل إلى تحويل يوم الأرض إلى يوم رسميّ قانونيًّا.
تهدف الأسوار من وراء هذا التواصل بين أبناء شعبنا هنا في الدّاخل، وهناك في الدولة الفلسطينيّة وهنالك في الشتات، إلى تعميق وحدة العمل الثقافيّ الوطنيّ تطبيقًا لا تنظيرًا، ضمن حلقات الانتماء الثلاث: الفلسطينيّة والعربيّة والعالميّة.
أدعو إلى المنصة مديرة أسوار عكا السّيدة حنان حجازي راعية هذه الفعاليّات، لتلقي كلمة أسوار عكّا، فحنان حجازي هي نموذج الطموح الذي لا يعرف الحدود والمثابرة التي لا تعرف اليأس والاستسلام والتخطيط، والمبادرات التي لا تعرف الرّوتين والمألوف، فتتخطاه بالتجديد أو الجديد المبتكر، إنّها تتحمّل المسؤوليّة، ناهيك عن قلب طيب وتواضع شامخ وعقل يقظ.
كلمة السّيّدة حنان حجازي: مديرة أسوار عكّا جاء فيها:
أيّها الحفلُ الكريم، للسنةِ الثانيةِ تَنطَلِقُ فعالياتُ اليوم الوطنيِّ للثقافةِ الفلسطينيةِ منْ أسوارِ عكا، دعمًا لصمودِ أهلِها في مواجَهَةِ المُخططاتِ العُنصريةِ الهادِفة إِلى تَهوِيدِها واقتلاعِ أهلِها والسَطوِ على تاريخِها العربيِّ وتشويهِ معالِمها الحضاريّةِ والتاريخيّة.
كانَ بودّنا أنْ نَستَضيفَ في هذا المَساءِ الأديبَ المُبدع والمناضل العريق يحيى يخلف، الذي أشرَفَ على رسمِ خارِطَةِ العَملِ الثقافيّ في فلسطين، مِن خلالِ بناء إستراتيجيّةٍ تُنَظَمُ الواقِعَ الثقافيّ وَتَرسمُ خَطى المُستَقبَلِ بِمنهَجيّةٍ وَمِهَنيّةٍ ومسؤوليّةٍ وَطَنيّةٍ، لكِنَّ الاحتلالَ الغاشِمَ والظالِمَ حالَ دونَ مُشاركتهِ، بعدم السّماح لهُ بالحضورِ إلىَ عكّا، لِنَحتَفِلَ معًا بِروايَتِهِ الرّائِعة "جنّة ونار". إنّنا نبعثُ بتحيّاتِنا إلى الكاتبِ المُبدع يحيى يخلف، ونستنكِرُ عَدمَ السّماحِ له بالتقاءِ أهلهِ هُنا في عكّا. حتمًا أيّها المناضلُ سوفَ تزولُ غيمةُ الاحتلالِ وتنقَشعُ عن ارضِنا الفلسطينيّة، وسوفَ نراكَ هَنا في الوطنِ في سمخ والناصرة وعكّا.
نُشاهِدُ هذا المساء مجموعةً مِنَ اللوحاتِ الفنيةِ لفنانٍ تشكيليّ ابدعَ في رسمِ الوطن انه عكيُّ المولِدِ يعيشُ في برلين، يحمِلُ همومَ فلسطين في قلبهِ ووجدانِهِ الفنان ابراهيم هزيمة الذي رفعَ اسمَ عكا والقدس وفلسطين عاليًا في سماءِ الإبداعِ الراقي فنالَ الجوائِزَ العالميّة، وقد أهدى أسوارَ عكّا الرّسوماتِ الرّائعةِ التي زيّنت ديوانَ الشاعر الخالد محمود درويش "على هذه الأرضِ ما يستحقُّ الحياة".
ونحنُ نَحتَفلُ في يومِ ميلادِهِ في كُلِ آذار الذي اُعتُمِدَ كيومٍ وطنيٍّ للثقافةِ الفلسطينيةِ، يُسعِدُ ألأسوار أن تُقدِمَ الطفل الموهوب براء غنامه ليلقي قصائِدَ الشاعر الخالد محمود درويش.
أيّها الحفلُ الكريم.. باسمِ ادارةِ مؤسسة الأسوار أرحّبُ بِكم جميعًا وأشكرُ المشاركينَ في هذه الأمسيةِ المُضيئةِ بنورِ الإبداعَ وبكلّ الإخوةِ الضيوف الأكارم، وأدعوكم جميعًا للمُشاركةِ في الاحتفالِ بتكريمِ كوكبةٍ من أعلامِ الوطنِ في السّابع ِ عشر من هذا الشهر في سخنين، أهلاُ بكم جميعًا في أسوارِ عكّا.
وتابع العريف محمّد علي سعيد قوله عن الفنان التشكيلي إبراهيم هزيمة:
من مواليد عكا 1933، هُجر مع أهله الى غربة الشتات، عمل مُدرّسًا للرسم في سوريا، ودرس الفن في باريس ثمّ في ألمانيا، وعمل في أحد مستشفيات ألمانيا مُعالِجًا للمرضى بواسطة الفنّ كالرّسم وغيره، نال العديد من الجوائز، وأقام العديد من المعارض. صمّم العديد من الطوابع الفلسطينيّة، ونال المرتبة الثالثة لأجمل طوابع العالم، وانتخب رئيسًا للجنة الوطنيّة الفلسطينيّة في اليونسكو في باريس 1988.
عام 1970 كان له أول لقاء مع الشاعر محمود درويش، وفي عام 2008 قامت مؤسّسة الأسوار عكّا بالجمع بينهما في كتاب مشترك، فالقصائد لمحمود درويش تعبيرًا ورسمًا بالكلمات، واللّوحات الفنيّة لإبراهيم هزيمة تعبيرًا لونيًّا وكلامًا بالألوان، والأمانة العلميّة تقتضي أن أقول بأنّ الخطوط للخطاط ريحان تيتي.
ويقول الفنان إبراهيم هزيمه عن عمله الفني: مواضيع أعمالي الفنيّة تُصوّر ترجمة لونيّة لمشاعري وأحاسيسي الدّفينة الحيّة للحياة في فلسطين الحبيبة، بإيقاعات واضحة متكررة، عناصرها الإنسان، والأرض، والبيت، والشجرة، والضوء. ويلحظ المشاهد عودة وترديد العناصر والمواضيع التشكيليّة، ولكن بإيقاعات حسّيّة داخليّة متجدّدة، وهذا ما يُذكّرنا بالتّرديد والإعادة في الموسيقا العربيّة، والبناء العربيّ والأرابيسك الذي ترك للحضارة العالميّة إرثًا وتأثيرًا كبيرَيْن، والجدير بالذكر أنّ الإنسان الفلسطينيّ يحتلّ مكان الصّدارة في عملي الفنيّ، أحلامه، ورغباته، وتشوّقه إلى الحرّيّة والعيش بأمان وسلام في أرضه الحبيبة فلسطين. الإنسان في لوحاتي يقف بثبات كشجرة راسخة الجذر في الأرض، وجذعها متعاليًا بأغصان في السّماء، ويمكنني القول إنّ مَن يشاهد أعمالي يُطلُّ على روحي وحبّي لوطني وأهلي.
وعن محمود درويش قال العريف محمّد علي سعيد:
في أمسية الحبّ والوفاء هذه، يجتمع ثلاثة مبدعين من أعلام شعبنا، ولكنهم يختلفون بوسيلة إبداعهم وبالتالي بنتاجهم الإبداعي، وكلّ منجز إبداعي يتأتى نتيجة لعزف الأديب على ما أسمّيه شخصيًّا بوتر الإبداع، الذي يمتدّ بين الواقع الحِرفيّ الذي يعيشه الأديب تجربة مباشرة أو غير مباشرة، والخيال المفتوح والحلم الذي يصبو إليه المبدع من انزياح غامض ضبابيّ أو مغلق مُبهَم، وفجوات نصّ مؤجّلة أو مفتوحة. إنّ موضع العزف يقرّر نسبة التعبير النسخيّ الفوتوغرافي للواقع أو التعبير الجمالّي الموحي لغويًّا أو لونيًّا أو مادّيًّا، كما ويؤثر أيضًا في كلّ ما يتعلق بالمنجز الإبداعيّ من مضمون ومبنى وأسلوب، ولأنّ موضع العزف يختلف من مبدع لآخر فيختلف النتاج وتبرز الفروقات، وتكون المقارنات بين المبدعين من أدباء وفنانين وغيرهم.
ولكن وفي كلّ الحالات يبقى الواقع الخامة الأساسيّة للإبداع، وعلى المبدع أن يعكس موقفًا فكريًّا من الواقع الحياتيّ الذي يعيشه، وأن يُربّي فينا الأمل بطرح الأسئلة التي تساعدنا على بناء واقع أجمل وأجود، ويرتفع السّؤال أين عزف مبدعونا.
الفنان التشكيليّ إبراهيم هزيمة ووسيلته كانت الفرشاة واللّون لوحة، والشّاعر المرحوم محمود درويش ووسيلته كان القلم والورقة والشعر، وأديبنا يحيى يخلف ووسيلته كانت الورقة والقلم نثرًا قصّة ورواية.. هذه العجالة لا تسمح بالتطرق للموضوع بإسهاب، ولكني وجدت بأن المكان كان من القواسم المشتركة بينهم.
ولعكا مكانة خاصة في قلب محمود درويش، فقد قال فيها:
أحجّ إليك يا عكا أقبل شارعا شارع/ وأحضن كلّ شباك وعشبا فوقه طالع/ وله عدة قصائد حول عكا. محمود درويش شاعر العصر الاستثنائيّ، ومن أعمق الآراء التي قرأتها عنه ما قاله الناقد إحسان عباس: درويش شاعر لا يتطوّر بسرعة، وإنّما يقفز من قمّة الى أخرى، وكأنه يقول دون أن يصرح :
أنام ملء جفوني عن شواردها/ ويسهر القوم جراها ويختصم.
عندما كنت في الصّفّ السّادس في قرية البعنة رأيته لأوّل مرّة، حيث كان يرسلني مدير المدرسة إلى دير الأسد لاستدعاء شقيقه معلم العربية أحمد ليعوّض معلّمًا غائبًا. ونَمَتْ علاقة قويّة مع الأصغر شقيقه رمزي في مثل جيلي، ودرسنا معًا في ثانويّة كفر ياسيف، وكثيرًا ما نِمْتُ عندهم في الجديدة، وما زلت أذكر بعض الطرائف والمواقف مع محمود وقد حدثت أمامي، مثل قصّته محمود مع الأدب الرّوسيّ.
عندما صدر ديوانه "مطر ناعم في خريف بعيد" دار نقاش في صحيفة الاتحاد، ومنذ ذلك الوقت وأنا أتابعه قراءة وجمعًا لمقابلاته ومقالاته، أنتظر اليوم الذي يتناول فيه ناقد تطوّر لغتي وأسلوبي. وعندما شاورني صديق بموضوع للماجستير عن محمود أخبرته بما قال محمود، فتناول تطوّر الموتيفات في شعر محمود درويش، وطور الماجستير لدرجة الدكتوراه.
بعد وفاته قامت مجلة الشرق بتخصيص عدد كامل عن محمود درويش، وكذلك استمررت بنشر مقالات عنه مدّة طويلة جدًّا حتى استقالتي من تحرير الملحق الأدبي.
محمود درويش الناقد: موضوع ينتظر من يدرسه من خلال تصريحاته وتوجيهاته والموجودة في مقالاته في مقابلاته المقروءة والمسموعة والمرئيّة، وإذا جمعناها سنحصل على الكثير من مواقف نقديّة من شاعر كبير يقول رأيه بصراحة دون تنظير معقد، لإثارة الانطباع وفيه صدق للتجربة وكيفية كتابتها إبداعًا. (التعود على الكتابة، متى تكتب، وكيف تكتب، المسودّات، موقفه من التطوّر، من المج بين الإبداع والقضيّة). استمعنا كثيرًا إلى ما قاله القراء عن محمود درويش، اِسمحوا لي أن أقرأ ما جمعته ممّا قاله محمود درويش نفسه.. وحبّذا لو قامت المؤسّسات بإبصار ما قاله (مقبلات، وافتتاحيات مجلتي الجديد والكرمل فيما بعد) أنقذونا من هذا الحبّ القاسي، افتتاحيّة مجلة الجديد.
أعدكم أن لا أكتب أسوأ مما كتبت، إلاّ إذا أصبحت مجنونًا أو اعتقدت بأنّ السّيّء هو الجيد.
أنا حذر أكثر، أكتب القصيدة ثلاث مرات، كتابة متحرّرة في المرّة الأولى، وأتحوّل إلى ناقد في الثانية وأجري تغييرات في الثالثة، لكي لا تؤدي إلى قراءة مسبقة سلفا.
بعد كلّ ما كتبت وعلى الرّغم مما كتبت تبيّن لي أنّني لم أبدأ بعد. ( 2000).
ممنوع أن يفكّر الشاعر بالقارئ في زمن الكتابة، يجب التحرّر من دكتاتوريّة القارئ.
ربّما في سن العاشرة حلمت أن أصبح شاعرًا، كان الشاعر فارس في نظري، لديه القدرة على قول الكلام الجميل، ولكنه الغامض بهذا القدر أو ذاك.
ممنوع أن نفترض بأن القارئ لا يستوعب شيئا.. فإنني لا أخسر القراء، وإذا خسرت كثمن لتطوّري، فأنا مستعدّ لذلك وأفضل أن أتطوّر.
الحداثة لا يمكن أن تكون نشاط أفراد فقط، إنّها مفهوم شامل، ولن يتمّ تحقيقه إلاّ عبر مشروع مجتمعي شامل.
إنّ وصف المأساة بصورة مباشرة يقتل اللغة الشّعرية.
الجوائز تعطى ولا تطلب.. جائزة نوبل ليست من مشاريعي المستقبلية.
معدل ما أنشره هو ثلثا ما أكتبه والثلث الباقي للإبادة.
الشاعر ينضج بعد الأربعين.
أشكو من رجحان التناول السّياسيّ في شعري.. انتظر الناقد الذي يتناول أسلوبي لغتي التي أعمل على تطويرها كثيرا. . أول ما فعلته عندما صحوت بعد العملية في فرنسا تحسست لغتي. (لهذا اقترحت على صديقي موضوع رسالته للماجستير تطور لغة درويش)
لا الانتشار ولا نقيضه يصلحان معيارًا للحكم على جماليّة الشعر.
إنّني شديد الإصغاء إلى حركة الزمن وإلى إيقاعات المشهد الشعريّ العالميّ، لا أتوقّف عن التدرّب على كيفيّة الاقتراب من توفير حياة، خاصّة للقصيدة بشرطها التاريخيّ وباستقلالها عنه معا.
إنّ أحد تدريباتي على امتحان قصيدتي هو أن أنساها لفترة ثم أعود لزيارتها للتحقق من طبيعتها الشعريّة.
يهمّني كثيرًا أن أطوّر شعري بطريقة نوعيّة، يرافقها تطوّر في المعرفة وإعادة نظر دائمة في مفهوم الشعر واقتراب من الشّعر الخالص ومن التّجربة الإنسانيّة.
قصيدة النثر قد توحي بالسّهولة لمن هم ليسوا شعراء.
في "أحد عشر كوكبا" وفي خطبة الهنديّ" قرأت الكثير من الكتب لتكون قصيدتي صادقة.
لا يمكن أن تظل التجريبيّة مفتوحة الى ما لا نهاية، دون أن تخلق لها نظامها الكلاسيكيّ الخاصّ بها، وإلاّ سادت الفوضى، كما نرى في العقديْن الأخيريْن.
الموهبة التي لا تتغذى بالقراءة تموت أو تكرّر نفسها.
كما تحدّث عن سمخ المهجرة؛ قرية الأديب المحتفى:
تقع قرية سمخ على الشاطئ الجنوبي لبحيرة طبريا، وكانت أكبر قرية في محافظة طبريا، فقد زاد عدد سكانها عام النكبة، 1948عن الثلاثة آلاف نسمة. كان فيها مدرستيْن ابتدائيّتيْن واحدة للبنين وأخرى للبنات، وكانت تقام فيها الأسواق للحيوانات والطيور نظرًا لموقعها الجغرافيّ، وكانت تعيش في بحبوحة اقتصادية مقارنة مع غيرها وفيها عدّة مقاهي. واعتمد سكانها على الزراعة (اشتهرت) بالموز والتجارة والحرف. وكان في القرية مجلس محلي منذ عام 1923.
كانت القرية متعدّدة الدّيانات من مسلمين وهم الأكثريّة ومسيحيين وديانات أخرى، وكذلك من عدة قوميّات عربيّة من مغاربة وشراكسة وبدو قبيلتي الصّقور والبشاتوة. سقطت القرية بعد كر وفر عام 1948 ونزح سكانها إلى مختلف الدّول العربية حاملين الذكريات والوطن.. ومنهم ضيفنا الكاتب القدير والمناضل الكبير يحيى يخلف. وبالتداعي فالمغاربة الذين عاشوا في سمخ هم من أتباع المجاهد الشيخ عبد القادر الجزائري، وقد برز منهم جد أديبنا الشيخ مصطفى يخلف، والشيخ محمود الذي قاد 1936 في منطقة طبريا.
وحاليًّا عُبْرن اسمها من سمخ إلى تسمح كغيرها، عكا عكو، بيسان بيت شآن، اللد لود، الخضيره حديرا، الحوله حولاته، وغيرها وذلك ضمن سياسة مدروسة في طمس وتشويه تاريخنا وحضارتنا، وعليه تقع علينا مسؤوليّة الحفاظ على تراثنا وتاريخنا بالتوثيق المكتوب أكثر من الشفويّ. وتجدر الإشارة بأنّ الحركة الصّهيونيّة أقامت أوّل لجنة لأسماء البلدات عام 1925.
وتناول نبذة قصيرة عن يحيى يخلف:
من مواليد قرية سمخ عام 1944 بعد النكبة تنقل مع أهله في المنافي، في الأردن فدرس في إربد وفي رام الله، حيث حصل على دبلوم في إعداد المعلمين، وفي لبنان حيث حصل على شهادة ليسانس آداب من جامعة بيروت. التحق بالثورة الفلسطينيّة عام 1967، وعمل في عدّة مجالات ومناصب من إعلام وثقافة وسياسة، عام 1980عمل أمينًا عاًّما لاتحاد الكتاب والصحفيّين الفلسطينيّين. عام 1987 عمل مديرًا عامًّا لدائرة الثقافة في منظمة التحرير الفلسطينيّة. عام 2003 حتى عام 2006 شغل منصب وزير الفلسطينيّة. وحاليًّا 2012 يشغل منصب رئيس المجلس الأعلى للتربية والثقافة في منظمة التحرير الفلسطينية ويعيش مع أسرته في رام الله. ولقد شارك في العديد من المؤتمرات العربية والعالمية في مجالات تخصصه من: أدب وثقافة وسياسة وإعلام. ولقد ترجم الكثير من مؤلفاته الى عدّة لغات أجنبية.
ومع ذلك ورغم ضيق وقته وكثرة التزاماته الوطنية، أجاد في تخطيط وقته ووجد للإبداع الأدبي مكانا، فصدر له ثلاثة عشرة مؤلفا توزعت بين القصة القصيرة والرواية، كان أولها المهرة 197 قصص وكان آخرها جنة ونار الصادر 2011، ومن هذه المؤلفات: نورما ورجل الثلج، تلك المرأة الوردة، ساق القصب، نجران تحت الصفر، تفاح المجانين، نشيد الحياة، بحيرة وراء الريح، تلك الليلة الطويلة، نهر يستحم في البحيرة، يوميات الاجتياح، عزيزنا يحيى، قالت الصهيونية عام النكبة: سوف يموت الكبار وسوف ينسى الصغار وتموت القضية.. لقد خذلتهم فما زالت سمخ تعيش في داخلك وستبقى كذلك مع الأبناء والأحفاد و........ ولكل منا سمخه، فطوبى لك وطوبى لشعبنا الفلسطيني الذي لم ولن ينسى ويمهل ولا يهمل.
وقالت العرب لكل مسمى من اسمه نصيب ، والاسم يحيى= ياء وحاء وياء وألف.-فالياء= يقين بانتصار الحق، ويمن ويقظة دائمة وواعية فيما يحيطنا والحاء= حركة دائمة في خدمة القضية، وحرية تطلبها للآخرين، وحب للحياة، والألف= إعتزاز بقوميتك الفلسطينية وإجلال لها، واعتراف بالجميل لكل من يقف مع قضيتنا. والياء= يمين العهد والوعد باستمرار النضال حتى قيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس وفقط. وياقوتة العقد هي فلسطين، ولأنها فلسطين على هذه الأرض ما يستحق الحياة. عزيزي نعتز بك دائما، ونتمنى لك العمر المديد ودوام العطاء المفيد.
ونقل العريف تحية أ. د. محمد بكر البوجي أستاذ الأدب العربي في جامعة الازهر لأمسية يحيى يخلف في عكا:
باسمي وباسم جامعة الازهر في غزة: تحية من أرض غزة ، غزة هاشم بن عبد مناف الصابرة والصامدة، تحية من أرض لن تنال منها الضربات على أنواعها، لأنها أصبحت فوق كل الضربات على أنواعها. تحية إليكم جميعا أيّها الأدباء المجتمعون في عكّا الصّامدة والصّابرة، وتحيّة لمؤسّسة الأسوار على دورها الوطنيّ الرّائد والثابت كعنوانها عكّا، فأنتم حرّاس الأدب العربيّ التّقدّميّ والإنسانيّ، ومنبع إبداعه على هذه الأرض العربيّة، ونحن نفتخر بكم لأنّكم اللؤلؤة الكبرى في تاج الامّة العربيّة، أبارك لأخي الاديب الكبير والمناضل المعروف الإنسان يحيى يخلف على هذه الرّواية الجديدة "نار وجنة"، وقد احسن صنعا أن يكون توقيع روايته قريبًا من قريته سمخ الباقية في القلب والعقل. أيّها السّادة الأدباء الكبار، أتوجّه إليكم باسم جامعة الأزهر في غزة أن تلبّوا دعوتنا لزيارتنا، وعلى شرفكم سيكون المهرجان الأدبيّ الأكبر في تاريخها الثقافيّ، ونحن في انتظاركم لترتيب اللقاء. شكرا لكم جميعًا، وإلى أن نلتقي في غزة لكم جزيل شكري وخالص مودّتي مع خالص حبّي وتحيّاتي لكم جميعًا.
وألقى البرعم الواعد براء غنامه من سخنين قصيدتين لمحمود درويش:
براء غنامه من مدينة سخنين الطيبة والكريمة والصّامدة، لما يزل في المرحلة الابتدائيّة.. لما يزل صغيرًا يانعًا أخضر ولكنه واعد بالكثير.. موهبة فذة في الإلقاء الشعريّ، فيه تفاعل وتعابير وحركات وطبقة صوت تلائم مضمون ما يقرأ، ممّا يدلّ على فهمه للقصيدة وليس بصمه، ناهيك عن هذه الذاكرة الخضراء، بنفس طريقة الإلقاء الشعريّ في المدارس كما كان الأمر أيام الانتداب، موهبة تأسر كلَّ مَن يسمعها وتحصي عليه أنفاسه.
القاصّ محمّد علي طه أحد أركان القصّة القصيرة محلّيًّا وعربيّا، وهو بحق سفيرها في العالم كما قال أحد أبرز النقاد المحلّيّين، تُرجمت قصصه إلى عدّة لغات كان آخرها في اللغة الإنجليزيّة وصدر في أمريكا، كما وقُدّمت دراسات أكاديميّة عديدة حول قصصه من: B.A + M.A+ Dr، كتب الرّواية ويكتب المقالة، وهو سيّد المقالة السّاخرة في البلاد، خرج للتقاعد ولكنه ما زال ناشطًا أدبيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا جاء في كلمته:
رواية يحيى يخلف الأولى "نجران تحت الصّفر" التي صدرت في بيروت عام 1976، أثارت انتباه القراء والنقاد، وأدهشتهم بجمال أسلوبها وقوّة بنائها، ثمّ واصل دربه الإبداعيّ ومشروعه الرّوائيّ، فقدّم لنا "تفاح المجانين" عام 1981، ثمّ "نشيد الحياة" عام 1985، ثمّ "بحيرة وراء الرّيح" عام 1988، ثمّ "وتلك الليلة الطويلة" عام 1993، ثم "نهرٌ يستحمُّ في البحيرة" عام 1996، وجاءت اليوم "جنّة ونار" لتكون الضلع الثالث في ثلاثيّة سمخ وبحيرة طبريا؛ العالم الجغرافيّ والإنسانيّ المُفضّل ليحيى يخلف، ولا يستطيع المُتتبّع لنتاج هذا المبدع إلاّ أن يتوقف أيضًا عند رائعته "تلك المرأة الوردة"، ذات النكهة الفنيّة الخاصّة، والتي أعتبرُها من أجمل القصص القصيرة في الأدب العربيّ.
قرأت رواية "جنة ونار" مرّتين مُتمتّعًا بالأسلوب وبسلاسة سرده وتعابيره الفنيّة الجديدة والمتجدّدة، وبموسيقاه التي تعزفها الكلمات، وبلازمة تكرار الجُمل التي يستخدمها بشكل دائم، كما أنّ عنصر التشويق شدّني منذ الفصل الأوّل والذي أعتبرُه اقوى فصول الرّواية، فسبحت مع نجيب وبدرية وسماء والإنجليزي، من بيروت إلى دمشق فالأغوار، فبحيرة طبريا فإلى بلدة المغار، وهي رحلة العودة إلى الأصل وإلى الأمّ.
يُذكّرني تكرار الجُمل وتكرار التعابير في قصص يحيى يخلف باسلوب الكاتب الكبير طه حسين، وكنت قد كتبت بحثًا عن الفنّ الرّوائيّ عند طه حسين، نشرته على ثلاث حلقات في مجلة الجديد قبل اربعين عامًا، وتوقفت يومئذ عند اسلوب طه حسين، واستنتجت أنّ التكرار عنده يعود إلى سببيْن، أحدهما أنّه عمل مُدرّسًا طيلة أعوام عديدة، والمُدرّسون يعتمدون على التكرار في شروحاتهم، وثانيهما أنّه أعمى ويُملي النصّ على سكرتيره وهو يسمع التكرار الموسيقيّ، فتساءلت هنا ما سبب التكرار عند يحيى يخلف، وهو كاتب منذ عقود وقاتَلَ وناضَلَ بالبندقية لمدة سنوات، وهو حادّ البصر والبصيرة، لذلك فإنّني أزعم كما يقول طه حسين دائما، أنّ حب يحيى يخلف للّغة هو مقلعه الأوّليّ، وحبّه إلى أبطاله وتعلّقه بهم قاداه للتكرار، وقد يكون هناك سبب آخر، وهو تأثّر يحيى يخلف بالحكّائيّ الشعبيّ الذي تعرف إليه في ليالي المُخيّم.
رواية "جنة ونار" هي قصيدة عشق مطوّلة لفلسطين؛ شعبًا، مدنًا، قرى، سهولا وجبالا، أودية وتاريخًا وحضارة، فالكاتب عاشق مُولّه لهذا الوطن، وهذا العشق يتسلّل إلى أسلوبه، فيدع أحيانًا السّرد الرّوائيّ الجميل، ويدع اللغة العذبة جانبًا، وينتقل إلى الجغرافيا والتاريخ، ويبدأ يُحدّث قارئَهُ عن هذه المدينة وعدد دونماتها ومتى تأسّست، وعن تلك القرية وموقعها وكم ترتفع عن سطح البحر، وهذه النبتة وتلك الشجرة، وهذا اللون وذاك الفستان، منذ الكنعانيّين حتى اليوم، فيكاد القارئ يعتقد أحيانًا أنّه يقرأ في "موسوعة بلادنا فلسطين" لمصطفى الدّبّاغ.
يعيش أبو حامد المجاهد والرّجل المفتي الوفيّ وسائق السيارة مع زوجته سميحة، ومع ابنتهما سماء الطالبة الجامعيّة اليساريّة الثوريّة الفوضويّة، وتقرأ سماء وصيّة أبي حامد بعد وفاته، فتصدمها الحقيقة إذ إنّ أبا حامد ليس والدها وسميحة ليست أمّها، بل وجداها طفلة رضيعة بين الأشواك على مقربة من بحيرة طبريا، في حرب 1948، فتبدأ سماء رحلة البحث عن أمّها وليس عن والديها، ولا دليل لها عن امّها سوى بقجة الملابس التي كانت بجانب الطفلة الرضيعة، والتي احتفظ بها أبو حامد مع دمية الطفلة ومع الحجاب الذي كان هناك، ويحيى يخلف خبير في الملابس الفلسطينيّة، يعرف ألوان الفستان الفلسطينيّ لكلّ منطقة، بل لكلّ مدينة ولكلّ قرية، ويعرف ما تُطرّزه المرأة على فستانها من أزهار ونباتات وطيور وحيوانات، ويعرف نوع القطبة والغرزة ونوع الخيط، وهذه المعرفة هي دليل سماء في بحثها عن أمّها، وهي التي تكتشفها في القسم الأخير من الرّواية.
كانت زكي العلي عائدة من بلدتها سيرين إلى مجدل طبريا برفقة زوجها وطفلتهما الرّضيعة، عن طريق شارع بيسان عشية حرب 1948، وفي طريق العودة أوقفت عصابة من "الإرغون"؛ التنظيم الحافلة، وساقت الرّكّاب إلى مستوطنة قريبة.
يحيى يخلف عاش مع الثوّار في طبريا ومع الثوار في الأردن ودمشق وبيروت، وفي الجزائر وتونس حتى عاد إلى رام الله، وكان الكاتب الثائر يحيى يخلف على علاقة وثيقة مع قادة فتح، مع أبي عمّار وأبي إياد، وأبي جهاد وأبي مازن وغيرهم، وهذه التجربة الغنيّة نجدها دائمًا بين السطور في رواياته جميعًا، فيحيى يخلف كاتب مبدع، وهو منحاز إلينا نحن الأقلية الفلسطينيّة المتبقية في هذه البلاد، منحاز الى العرب الفلسطينيّين في الدّاخل، فنحن الأمّ في روايته وام القضيّة، ونحن زكيّة العلي التي خرجت من المجزرة بعد مقتل زوجها وضياع ابنتها، وبقيت منغرزة في الوطن وتزوجت وأنجبت طفلة أخرى أسمتها ليلى.
وفيما أنا أقرأ هذه الرّواية الجميلة شعرت أنّني ساهمت في كتابتها، فيوم عاد يحيى يخلف أبو الهيثم إلى الوطن، وبعد وصوله بأيّام قليلة اتصل بي هاتفيّا، لآخذه إلى سمخ وطبريا، فرافقته بسيّارتي بعدما أخذته من جنين، ووصلنا إلى سمخ ثم طبريا ثم إلى المغار، لنبحث عن أهل زعواطة، فمن هي زعواطة؟
وجدنا في المغار ثلاثة رجال كبار في السّن يلعبون الطاولة، فنزلت وسألتهم عن بيت مختار المغار في زمن الانتداب، فنظروا إلينا باستغراب وخاصّة إلى الرجل وقالوا له، أنت مَن يسأل، وأنت من المؤكد ابن زعواطة، فذُهل الرّجل واستغرب مَن تكون زعواطة، فقد كانت كثيرة مشاكل وأسميناها زعواطة.
في تلك الصّفوة وجد يحيى يخلف زكيّة العلي في تلك البلدة، فهذه الرواية كما أعتقد هي الذاكرة الفلسطينيّة الشتات، وهي روح الوطن وجماله، وهي قبلة على جبين زكيّة العلي، وزكية العلي اسمٌ كم فيه من إيحاء وأبعاد خضراء!
كان لقاء مباشرًا عن طريق (السكايب) المهاتفة المصورة المباشرة مع الكاتب يحيى يخلف جاء في كلمته: شرف كبير أن أكون معكم رغم أنف الاحتلال وأنف نتنياهو كي نتواصل، وأقول إنني كنت أنتظر هذه الأمسية بفارغ الصّبر، وكنت في عدّة احتفالات بتوقيع الكتاب وبعدّة ندوات أخرى شاركت بها، كما أنّ عدة حفلات توقيع جرت في الماضي في دار الشروق في القاهرة وأيضا في رام الله وفي باريس، ولكنّني أقول إنّ هذه الأمسية هي الأحبّ إلى قلبي، لأنها في عُمق وطننا فلسطين، ونحن نريد أن نُقيم دولة فلسطينيّة في وطننا، فأرسل لعكا رسالة حبّ، لأسوارها ولأقواسها، لزواياها وبحرها، وإلى كلّ أرجاء وطننا الحبيب، وإلى شعبنا الصّامد حارس المكان، ورسالة حبّ أخرى لاصدقائي مَن اهتمّوا بالاحتفاء بالكتاب، وكان بودّي أن أكون معكم وبينكم، ولكن الاحتلال يقف عقبة أمام القدرة على الحياة، وأمام الشعب الفلسطينيّ في الدّاخل والخارج، وعرب 1948 هم الجزء الأساسي ولُبّ وجوهر البنية التحتيّة في الثقافة الفلسطينيّة، وبالمناسبة دعوني أترحّم على عمر مصالحة من قرية دبورية، الذي فارقنا منذ أيّام في باريس، ورسالة أخرى للمُحتلّ نقول له كما قال توفيق زياد إنّنا هنا باقون:
كأننا عشرون مسحيل/ في اللد والرملة والجليل/ هنا على صدوركم باقون كالجدار/ وفي حلوقكم/ كقطعة الزجاج، كالصبار/ وفي عيونكم/ زوبعة من نار/ هنا على صدوركم باقون كالجدار/ نجوع، نعرى، نتحدّى/ ننشد الشعار/ ونملأ الشوارع الغضاب بالمظاهرات/ ونملأ السجون كبرياء/ ونصنع الطفال جيلا ثائرا وراء جيل/ كأننا عشرون مستحيل/ في اللد والرملة والجليل/ إنّا هنا باقون/ فلتشربوا البحرا/ نحرس ظلّ التين والزيتون/ ونزرع الأفكار كالخمير في العجين/ برودة الجليد في أعصابنا/ وفي قلوبنا جهنّ حرا/ إذا عطشنا نعصر الصّخرا/ ونأكل التراب إن جعنا ولا نرحل/ وبالدم الزكي لا نبخل.. لا نبخل.. لا نبخل/ هنا لنا ماضٍ وحاضر ومستقبل/ كأننا عشرون مستحيل/ في اللد والرملة والجليل/ يا جذرنا الحيّ تشبّث/ واضربي في القاع يا أصول/ أفضل أن يراجع المضطهِد الحساب/ من قبل أن ينفتل الدولابّ
فنحن باقون ولم يستطيعوا على مدى أكثر من ستين عام أن يُهوّدوا فلسطين، أو أن يكونوا جزءًا من ركائز وجماليّة هذا المكان!
وفي كلمة الكاتب سهيل كيوان عضو إدارة مؤسّسة أسوار عكا، ومحرّر صحيفة كلّ العرب الأسبوعيّة، وله زاوية أسبوعيّة ساخرة باسم أهداف جاء في كلمته:
يحيى يخلف راوي المأساة الفلسطينيّة بلا منازع، إنّه المؤرّخ الأدبيّ للنكبة، وصاحب الرّصيد الكمّيّ الأكبر من الرّوايات الفلسطينيّة المرتبطة برباط وثيق بمأساة المكان والإنسان الفلسطينيّ، إلاّ أنّ ما يميّز هذا الكمّ الكبير هو أنّه يحمل ثقلا نوعيًّا وفنيًّا، لا يقلّ أهمّيّة وفنيّة وجمالاً عن روائع الأدب العالميّ، والغريب في أمر الرّوائيّ يحيى يخلف الذي يستحق بجدارة لقب "راوية فلسطين"، أنّه يجود أكثر وأكثر كلّما تقدّمت به السّن، ويبدو أنّ كلّ شيء لدى الفلسطينيّ يختلف عن ما لدى الآخرين، فالفلسطينيّون لا يصلون سنّ اليأس أبدًا، بل يتجدّدون، وكأنّ الرّوائيّ الكبير يسير باتّجاه معاكس، فمنذ نجران تحت الصّفر التي كانت قمّة إبداعيّة، لم يتوقّف يحيى يخلف عن مسيرته الإبداعيّة الرّوائيّة، بل يصول ويجول في هذا الفضاء السّرديّ الذي يتفنن في بنائه، ويدهشنا مرّة تلو الأخرى بما يرويه.
فأبطال يحيى يخلف يختلفون عن أبطال روايات الآخرين في الأدب العالميّ، إلاّ ما ندر، فهم يعيشون حياتيْن، حياة يمارسونها بعد النكبة في الشتات وفي فلسطين نفسها، وحياة أخرى عاشوها قبل النكبة، هذه الحياة السّابقة تأبى أن تتلاشى، بل تزداد وضوحًا بل تورّمًا وألمًا كلما ابتعد الزّمن عنها، ويبدو أنّه لا يمكن لها أن تنتهي لأنّها الوطن، والوطن لا ينسى حتى بعد آلاف السّنين، ولهذا سنرى في رواية "جنّة ونار" بحثًا يعود إلى العصور القديمة، بحثًا غنيًّا مُمتِعًا قراءة، ومعلومات جوهريّة هامّة في حياة شعوب عاشت في فلسطين، حتى أننا نجد أبحاثًا لغويّة، ومصادر كلمات مثل "بعل" وزراعة بعليّة، نسبة للإله بعل.
أبطال رواياته شيوخ وأطفال ونساء كلّهم يقاتلون هذا المنفى المُدمّر الذي لا يرحم، ولهذا نجد في أبطاله التسامح والطيبة والتفهّم، فالظروف القاهرة هي التي أوصلتهم إلى الشرّ أو إلى الخير سواء بسواء، جميع هؤلاء مشدودون في حنين جارف للعودة إلى أصولهم، فنراهم شيوخًا يعودون إلى ملاعب طفولتهم، وما من شخصيّة في رواياته إلاّ ولها جذور هنا في تربة الوطن، مهما ابتعدت وتاهت بها السّبل، سواء كان هذا البطل إنسيًّا أو غير ذلك من الأحياء كالحصان والكلب والدّجاج، بل وحتى القماش والدّمية والمكحلة وغيرها، "جنة ونار" هي رواية البحث عن الذات الفلسطينيّة، من خلال بحث الصّبية "سماء" التي عثر عليها أبو حامد ملقاة بين الأشواك أثناء الرّحيل من سمخ، تحت ضغط المجازر والمذابح عام النكبة، فيتبنّياها ويتّخذاها ابنة لهما يطلقان عليها اسم "ماء السّماء"، وهو اسم الرّواية التي سبقت "جنة ونار"، يعثران عليها مع بعض الأشياء مثل الدّمية والشال والثوب المطرّز وقبعة العروس، ومنديل الحزمة، وحجاب الحرز، ومكحلة على هيئة حمامة.
أبو حامد الذي تبنى الطفلة مع زوجته سميحة يتوفى في مطلع رواية جنّة ونار، وقد احتفظ بكلّ الأشياء الخاصّة بالطفلة "ماء السّماء" التي صارت صبيّة في العشرين، ويُعلمها من خلال وصيّته بالحقيقة، بأنه وزوجته ليسا والديها البيولوجيّين، وأنّها ابنتهما بالتبني.
الصّبية سماء التي تعرف الحقيقة تبدأ رحلة بحث عن أمّها الحقيقية، مستعينة بالأشياء التي عثر عليها بمعيّتها، فتستعين بالسّيدة دالية المختصّة بالتراث الفلسطينيّ وخريطة، كي تعرف كلّ بقعة يدور الحديث عنها وتسجّل ملاحظاتها، من خلال عمليّة البحث يفاجئنا الكاتب بسبره أعماق التراث الفلسطينيّ، وامتداد جذوره إلى حقب تاريخيّة سحيقة، فيحشد في هذه الرواية كمًّا هائلا من المعلومات المتعلقة بصناعة النسيج والأصباغ والعبادات، وتربية النّحل والحمام الزاجل وغير الزاجل وغيرها من صناعات الشعوب التي عاشت في فلسطين، وأنواع وأشكال معيشتهم، التطريز وما يعنيه كلّ رمز على ملابسهم، وعاداتهم وتقاليدهم التي تأتي من طبيعة حياتهم وجغرافيّة بلدهم، فلكل قرية صناعتها ورموزها التي تشتهر بها من مجدل عسقلان إلى وادي الحمام وسمخ والطابغة ولوبية وكفركنا، وغيرها من قرى دارسة أو ما زالت عامرة، الرّوائي الذي حمل سمخ في قلبه بأهلها وحيواناتها وماء بحرتها وهوائها وحجارتها وتربتها، ينقلنا في "جنّة ونار" إلى فلسطين التي نعيشها ولا نعيها، ينقلنا إلى تشكّل روح فلسطين عبر الحقب التاريخيّة المختلفة، من خلال بحث "سماء" عن والديْها.
سمخ التي أرادوا لها أن تمحى مثل كثير من أخواتها حول البحيرة وبعيدًا عن البحيرة من شمال الى جنوب فلسطين، عاشت وتخلّدت وسوف تعيش إلى الأبد ما عاش الأدب العربيّ والعالميّ، فشخصيّة الرّاوي كثيرًا ما تكون هي الرّاصد للحدث، وفي أحيان كثيرة هي التي تمارسه، فالرّاوي مراقب للحدث ومشارك فيه، ليجعل من سمخ معبدًا يُقيم فيه طقوسه الصّوفيّة، حتى يتلاشى الكلّ بالواحد والواحد بالكلّ، الجزئيّ الذي يخبرك عن الكلّ، والكلّ الذي تجده في هذا الجزء، فهي نموذج لكلّ قرى ومدن فلسطين المنكوبة. تمضي حياة اللّجوء والبؤس في المخيّمات في توازٍ مع أيّام البلاد الجميلة، حيث الخصب والفلاحة والشبع والاستقرار والأمان، ومع الأمل الذي يصارع من أجل البقاء، وبتعبير درويش "نربّي الأمل" رغم كلّ ما حدث ويحدث، سنجد في "جنة ونار" أسماء عرفناها من قبل في روايات سابقة، فهي جزء من ثلاثيّة – بحيرة وراء الرّيح– ماء السماء –جنة ونار-، نجد الكاتب يتابع مصائرها أو أصولها، فعند يحيى يخلف لا توجد شخصيّات مختفية، فإذا اختفت في فترة ما، لا بدّ أن تعود لتظهر ولو بعد حين، كما حدث للشركسي من كفر كما الذي وجدناه في "بحيرة وراء الرّيح" يقاتل إلى جانب نجيب، وها هو يعود في رواية "جنة ونار" كي يستقبل سماء وبدريّة ونجيب والإنكليزيّ، عند مغامرة عودتهم إلى فلسطين بلا سلاح، حيث يعبرون النّهر عائدين كلّ منهم إلى أصوله، فتعيش معهم عبور النهر والليلة القاسية التي أمضَوْها في سمخ، في شاليه في طور البناء في ليلة سبت، حيث يذهب المقاتل الكهل نجيب لطلب المساعدة من رفيقه الشركسيّ القديم. الجميل أنّ بإمكانك قراءة هذه الثلاثيّة مجتمعة أو كلّ واحدة منها على حدة!
من المدهش أن نعرف بأنّ "جنة ونار" هو اسم لثوب فلسطينيّ من صناعة مجدل عسقلان، "وتطريزه على الأرجح في بيت دجن، كان ثوبًا ساحرًا قماشه أسود، خط آخر باللون الأحمر، وعلى الأكتاف وعلى الجانبيْن وعلى طول الكتف والأكمام خط باللون الأخضر، نجوم وأحجبة وشجر سرو ورسومات أخرى على الصّدر والأكمام، وتنويعات رائعة على جانبي الثوب، وعلى ظهر الثوب رسمة يتفرّد بها وهي طبنجة ترمز إلى كفاح أهل منطقة مجدل عسقلان ضد الغزاة!
سماء تتتبّع مسار الثوب الفلسطينيّ من مجدل، عسقلان إلى بيت دجن، إلى مجدل فطبريا، وهذا من خلال أبحاث شيّقة وعلميّة نجدها على امتداد الرّواية. ورغم عدم إيمان (سماء) بالخرافات، فإنّها تجد نفسها عند شيخة من أولئك اللاتي يتعاملن مع الفتح بالفنجان وغيرها من الخزعبلات، فتبلغها أنّ اسم أمّها الحقيقيّ هو فاطمة وأبوها فلاح، ولكن الحقيقة التي تتّضح تكون على لسان شيخ من قرية المجدل يعيش في مخيم (سبينه) في سوريا، فهو يخبر سماء باسم والدها الحقيقيّ وأمّها وأعمامها، وحتى اسمها هي: "أمّك زكية وأبوك سعيد أحمد العلي"، ويخبرها أنّ معظم أهل المجدل ما زالوا هناك في الناصرة وكفر كنا والمغار، وهو من القليلين الذين نزحوا، وما أكّد صحّة كلامه وفراسته هو حجاب الحصن الحصين الذي كان معها، وقد كتبه شيخ جليل للطفلة "ليلى أمّها زكية أبوها سعيد بن احمد بن هاشم العلي.
سماء التي تعرف أنّ اسمها ليلى وأنّ ذويها ما زالوا في الوطن، تعبر النهر مع بدريّة ونجيب والإنكليزي، والشركسيّ من كفر كما صديق نجيب القديم يتّصل بأهلها وأعمامها في المغار ويخبرهم بأمرها، لتلتقي بأمّها الحقيقيّة، هذه الأمّ هي أهل فلسطين الذين صمدوا وبقوا فيها، الذين ينتظرون عودة أحبّائهم من الشتات.